فصل: بَابُ اللِّعَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ اللِّعَانِ:

قَالَ: (إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا وَطَالَبَتْهُ بِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ) وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِقولهِ تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} نَصٌّ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَقُلْنَا الرُّكْنُ هُوَ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ قَرَنَ الرُّكْنَ فِي جَانِبِهِ بِاللَّعْنِ لَوْ كَانَ كَاذِبًا وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا بِالْغَضَبِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقول لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا، وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى وَلَدَهَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا ظَاهِرًا وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شُبْهَةٍ، كَمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ.
فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ اللِّعَانِ) هُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ، وَالْقِيَاسُ الْمُلَاعَنَةُ، وَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ يَجْعَلُونَ الْفِعَالَ وَالْمُفَاعَلَةَ مَصْدَرَيْنِ قِيَاسِيَّيْنِ لِفَاعِلٍ وَهُوَ مِنْ اللَّعْنِ وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، يُقَالُ مِنْهُ الْتَعَنَ: أَيْ لَعَنَ نَفْسَهُ، وَلَاعَنَ إذَا فَاعَلَ غَيْرَهُ، وَمِنْهُ رَجُلٌ لَعْنَةٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّعْنِ لِغَيْرِهِ، وَبِسُكُونِهَا إذَا لَعَنَهُ النَّاسُ كَثِيرًا.
قَالَ:
وَالضَّيْفُ أُكْرِمُهُ فَإِنَّ مَبِيتَهُ ** حَقٌّ وَلَا تَكُ لَعْنَةً لِلنُّزُلِ

وَفِي الْفِقْهِ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْن الزَّوْجَيْنِ مِنْ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْرُوفَةِ، سُمِّيَ ذَلِكَ بِهِ لِوُجُودِ لَفْظِ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ وَلَمْ يُسَمَّ بِاسْمِ الْغَضَبِ، وَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّهُ فِي كَلَامِهَا وَذَلِكَ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ أَسْبَقُ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَشَرْطُهُ قِيَامُ النِّكَاحِ وَمَا سَيُذْكَرُ.
وَسَبَبُهُ قَذْفُهُ زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ.
وَرُكْنُهُ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ.
وَحُكْمُهُ حُرْمَتُهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَهْلُهُ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ.
قولهُ: (إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا) بِأَنْ يَقول أَنْتِ زَانِيَةٌ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَا زَانِيَةُ، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَجِبُ بِقولهِ يَا زَانِيَةُ بَلْ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قول اللَّيْثِ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
وَاسْتُضْعِفَ بِأَنَّ الْكُلَّ رَمَى بِالزِّنَا وَهُوَ السَّبَبُ فَلَا فَرْقَ.
قولهُ: (وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ أَدَائِهَا عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ، وَلَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَجْرِي بَيْنَ الْأَعْمَيَيْنِ وَالْفَاسِقَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا أَدَاءَ لَهُمَا.
وَدَفَعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِلْفِسْقِ وَلِعَدَمِ تَمْيِيزِ الْأَعْمَى بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَهُنَا هُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَامْرَأَتِهِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُلَاعِنُ.
قولهُ: (مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا) فَلَوْ كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَدَخَلَ بِهَا فِيهِ أَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا وَلَوْ مَرَّةً أَوْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا بِشُبْهَةٍ وَلَوْ مَرَّةً لَا يَجْرِي اللِّعَانُ.
وَأَوْرَدَ مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ بِكَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَهُوَ شَرْطٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لَا يَجْرِي اللِّعَانُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا.
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْصَانِهَا حَتَّى يَقَعَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهَا قَذْفُهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا شَيْئًا لَا حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا اللِّعَانِ، أَمَّا قَذْفُ الرَّجُلِ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ فَمُوجِبُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ فَلَمْ يُخِلَّ قَذْفُهُ عِنْدَ عَدَمِ إحْصَانِهِ عَنْ مُوجِبٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَهُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ إذْ الْحَدُّ أَصْلُ اللِّعَانِ فَكَانَ فِي مَعْنَى اللِّعَانِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَكَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ كَالزَّانِي لَا يُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاسِقَيْنِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِيهَا لِتَثْبُتَ عِفَّتُهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ عَفِيفًا عَنْ الزِّنَا، فَكَذَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ قَذْفِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ تُطَالِبَ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ وَهُوَ الْحَدُّ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اللِّعَانُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الْمَعْنَى فَلِأَيِّ مَعْنًى يَمْتَنِعُ.اهـ.
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمَقْذُوفَةُ دُونَهُ فَاخْتُصَّتْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَقْذُوفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ فَاشْتُرِطَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ دُونَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ) أَيْ إنَّ الْأَصْلَ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا، وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مَعَ ذَلِكَ عَفِيفَةً مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ: أَيْ قَذْفِهِ لَهَا فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا كَوْنَهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَمَقَامُ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنْ كَانَ صَادِقًا.
قولهُ: (عِنْدَنَا) قُيِّدَ بِهَذَا الظَّرْفِ لِيُفِيدَ الْخِلَافَ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ اللِّعَانُ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ عِنْدَهُ، فَيَجِبُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقولنَا، وَجْهُ قولهِ قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} فَقولهِ تعالى: {بِاَللَّهِ} مُحْكَمٌ فِي الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِي الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا، فَحَمَلْنَا الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ يَمِينِهِ، وَكَذَا الْمَعْهُودُ شَرْعًا عَدَمُ تَكَرُّرِ الشَّهَادَةِ فِي مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْقَسَامَةِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَحَلُّهَا الْإِثْبَاتَاتِ وَالْيَمِينُ لِلنَّفْيِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ حَقِيقَتِهِمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا وَمَجَازِ الْآخَرِ، فَلْيَكُنْ الْمَجَازُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُوجِبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَقْتَضِي فِي حِلِّ مَذْهَبِهِ أَنْ يُقَالَ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِأَيْمَانٍ لَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ.
وَلَنَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} أَثْبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَجَازًا عَنْ الْحَالِفِينَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ مَنْ يَحْلِفُ لَهُمْ يَحْلِفُونَ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا فَرْعُ تَصَوُّرِ حَلْفِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ حَقِيقِيًّا لِلَّفْظِ الشَّهَادَةِ كَانَ هَذَا صَارِفًا عَنْهُ إلَى مَجَازِهِ فَكَيْفَ وَهُوَ مَجَازِيٌّ لَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْيَمِينِ فَكَيْفَ وَهَذَا صَارِفٌ عَنْ الْمَجَازِ وَمَا تُوُهِّمَ صَارِفًا مِمَّا ذُكِرَ غَيْرُ لَازِمٍ قولهُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَتَكَرُّرُ الْأَدَاءِ لَا عَهْدَ بِهِمَا.
قُلْنَا: وَكُلٌّ مِنْ الْحَلِفِ لِغَيْرِهِ وَالْحَلِفُ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ لَا عَهْدَ بِهِ، بَلْ الْيَمِينُ لِدَفْعِ الْحُكْمِ، فَإِنْ جَازَ لِمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْحُكْمِ كَيْفَمَا أَرَادَ شَرْعِيَّةَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَحِلٍّ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً جَازَ لَهُ أَيْضًا شَرْعِيَّةُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ هُمَا أَقْرَبُ فِي الْقول لِعَقْلِيَّةِ كَوْنِ التَّعَدُّدِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَرْبَعًا بَدَلًا عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ إقَامَةِ شُهُودِ الزِّنَا وَهُمْ أَرْبَعٌ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ عِنْدَ التُّهْمَةِ وَلِذَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِهَا أَعْظَمُ ثُبُوتٍ.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُشَرَّعَ عِنْدَ ضَعْفِهَا بِوَاسِطَةِ تَأْكِيدِهَا بِالْيَمِينِ وَإِلْزَامِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ إنْ كَانَ كَاذِبًا مَعَ عَدَمِ تَرَتُّبِ مُوجِبِهَا فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ، إذْ مُوجِبُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ هُنَا، بَلْ الثَّابِتُ عِنْدَهُمَا مَا هُوَ الثَّابِتُ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ انْدِفَاعُ مُوجِبِ دَعْوَى كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَهُمَا وَلَمْ نَقُلْ بِهِمَا لِأَنَّ هَذَا الِانْدِفَاعَ لَيْسَ مُوجِبَ الشَّهَادَتَيْنِ بَلْ هُوَ مُوجِبُ تَعَارُضِهِمَا.
وَأَمَّا قولهُ الْيَمِينُ لِلنَّفْيِ إلَى آخِرِهِ فَمَحِلُّهُ مَا إذَا وَقَعَتْ فِي إنْكَارِ دَعْوَى مُدَّعٍ وَإِلَّا فَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى إخْبَارٍ بِأَمْرِ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهَا عَلَى صِدْقِهِ فِي الشَّهَادَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ كَمَا إذَا جَمَعَ أَيْمَانًا عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ كَوْنِهَا مُؤَكِّدَةً لِلشَّهَادَةِ، إذْ لَوْ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُهُمَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَكِّدًا لِلْآخَرِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا.
قولهُ: (قَائِمَةً مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ زَوْجَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا مُطْلَقًا: أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ بِالزِّنَا لَا يَجْزِيه لِعَانٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُلَاعِنَ كُلًّا مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ كُنَّ أَجْنَبِيَّاتٍ فَقَذَفَهُنَّ حُدَّ وَاحِدًا لَهُنَّ.
وَسَبَبُ هَذَا الِافْتِرَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ لِلْكُلِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُنَّ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي اللِّعَانِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُ الْكُلِّ فِي كَلِمَةٍ.
قولهُ: (وَيَجِبُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَلَدَهُ مِنْهَا أَوْ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَيَجِبُ إرَادَةُ هَذَا الْإِطْلَاقِ.
فَقولهُ فِي الْغَايَةِ أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا الْمَوْلُودِ عَلَى فِرَاشِهِ لَا يُفِيدُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ يَكُونُ قَذْفًا لَهَا كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ اللِّعَانَ لِمَا تَلَوْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ.
قولهُ: (وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ إنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِجَوَازِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لَا زِنًا.
أَجَابَ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَكِنَّ الْوَاقِعَ انْتِفَاءُ ثُبُوتِهِ إلَّا مِنْ هَذَا الْفِرَاشِ الْقَائِمِ.
فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ نَفْيًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مُطْلَقًا وَيَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عَنْ زِنًا فَكَانَ قَذْفًا مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِ زِنًا وَلَا عِبْرَةَ بِهِ.
فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فِيمَا إذَا صَرَّحَ بِنِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَهُ بِمَا إذَا نَفَى أَجْنَبِيٌّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ: يَعْنِي فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِيهِ وَهَذَا مُصَرَّحٌ، بِخِلَافِ مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ أَنَّهُ إذَا نَفَى الْوَلَدَ فَقَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَمْ يَقْذِفْهَا بِالزِّنَا لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا بِالزِّنَا يَقِينًا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ.
وَفِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ جَعَلَا هَذَا قول الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي وَلَدْتِيهِ مِنْ زَوْجِك لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مَا لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مِنْ الزِّنَا قَالَ: وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِضَرُورَةٍ فِي اللِّعَانِ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَبْهَا أَوْ عَزَلَ عَنْهَا عَزْلًا بَيِّنًا وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُوَ: يَعْنِي فَيَحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْحِقُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ يَقِينًا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ، وَثُبُوتُهُ فَرْعُ اعْتِبَارِهِ قَاذِفًا فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَجَوَابُ الْفَصْلَيْنِ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا الْمُصَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ؛ وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِهِ قولهُ فِي الْكِتَابِ: وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ إلَخْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، كَمَا فِي نَفْيِ أَجْنَبِيٍّ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ، وَنَقَلَهُ مِنْ الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ، ثُمَّ نَقَلَ قول الشَّافِعِيِّ كَمَا فِي النِّهَايَةِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ صُورَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ مَقِيسًا لَهُ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ زَوْجِك وَلَمْ يَمْنَعْهُ فِي جَوَابِهِ بَلْ ذَكَرَ فِي جَوَابِهِ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ بَيْنَ قولهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَبَيْنَ قولهِ لِزَوْجَتِهِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَالْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ، قِيلَ وَذُكِرَ فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ: لَوْ قَالَ وَجَدْت مَعَهَا رَجُلًا يُجَامِعُهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحِلَّ وَالْجِمَاعَ بِشُبْهَةٍ وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هُنَا: يَعْنِي فِي نَفْيِ نَسَبِ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ.
أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّا جَعَلْنَاهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالزِّنَا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا.
قُلْت: وَعَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا، بِخِلَافِ قَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ.

متن الهداية:
وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ فَيُحْبَسُ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ (وَلَوْ لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ) لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ إلَّا أَنَّهُ يُبْتَدَأُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي (فَإِنْ امْتَنَعَتْ حَبَسَهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى إيفَائِهِ فَتُحْبَسُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُ أَيْ اللِّعَانُ حَقُّهَا لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْهَا فَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ طَلَبُهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى نَفْيِ مَنْ لَيْسَ وَلَدُهُ عَنْهُ (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ) فَيُحَدُّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إذَا امْتَنَعَ حَدَّهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَا إذَا لَاعَنَ فَامْتَنَعَتْ عِنْدَهُ تُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا، وَعِنْدَنَا تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقُهُ فَيَرْتَفِعُ سَبَبُ وُجُوبِ لِعَانِهَا وَهُوَ التَّكَاذُبُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا أَكْذَبَ كُلٌّ الْآخَرَ فِيمَا ادَّعَاهُ.
وَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ الْقَذْفَ فَهُوَ السَّبَبُ وَالتَّكَاذُبُ شَرْطٌ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَيَرْتَفِعُ الشَّيْنُ، وَهَذَا إذَا اعْتَرَفَ بِالْقَذْفِ، فَلَوْ أَنْكَرَ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ اللِّعَانُ.
وَفِي الْجَامِعِ: لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ مَا عَدَلَا لَا يُقْضَى بِاللِّعَانِ وَفِي الْمَالِ يُقْضَى بِخِلَافِ مَا لَوْ عَمِيَا أَوْ فَسَقَا أَوْ ارْتَدَّا حَيْثُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: أَوْ تَصَدَّقَهُ فَتُحَدُّ وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَكَيْفَ يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ مَرَّةً، وَهُوَ لَا يَجِبُ بِالتَّصْدِيقِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ قَصْدًا بِالذَّاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بَلْ فِي دَرْئِهِ فَيَنْدَفِعُ بِهِ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَهُوَ وَلَدُهُمَا، لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَنْقَطِعُ حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَهُوَ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهِ.
وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَذْفِ مُطْلَقًا الْحَدُّ بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَقْذُوفَةُ زَوْجَةً بِاللِّعَانِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ بِهِ يُحَدُّ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُلَاعِنْ بَعْدَمَا أَوْجَبَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا اللِّعَانَ بِلِعَانِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُدَّتْ بِالزِّنَا، وَيُشِيرُ إلَيْهِ قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} قُلْنَا قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلَى قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أَيْ فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ فَاءَ الْجَزَاءِ يُحْذَفُ بَعْدَهَا الْمُبْتَدَأُ كَثِيرًا فَأَفَادَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَذْفِ النِّسَاءِ اللِّعَانُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا أَوْ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْعَامِّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ كَوْنُ الثَّابِتِ فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ إنَّمَا هُوَ هَذَا فَلَا يَجِبُ غَيْرُهُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إيفَائِهِ بَلْ تُحْبَسُ لِإِيفَائِهِ كَمَا فِي كُلِّ حَقٍّ امْتَنَعَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ إيفَائِهِ لَا يُعَاقَبُ لِيُوفِيَهُ.
وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ بِطَرِيقِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارَنْ الْعَامُّ وَهُوَ مُخَصَّصٌ أَوَّلٌ، وَلِلْعِلْمِ بِتَأَخُّرِهِ عَلَى مَا رَوَوْا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «قَالَ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحُدَّ عَلَى ظَهْرِكَ» فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْعَذَابِ فِي الْآيَةِ الْحَدَّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ الْحَبْسَ.
وَإِذْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ هُوَ الْوَاجِبُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
قِيلَ: وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا مَعَ ثَلَاثَةِ عُدُولٍ ثُمَّ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا بِقولهِ وَحَدُّهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَاسِقًا.
وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمِينٌ عِنْدَهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْمَالِ وَلَا لِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَسْقَطَ بِهِ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْجَبَ بِهِ الرَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا لِنُكُولِهَا بِامْتِنَاعِهَا عَنْ اللِّعَانِ.
قُلْنَا: هُوَ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ، فَإِنَّ كَوْنَ النُّكُولِ إقْرَارًا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِمَا مَعَ أَنَّهُ غَايَةُ مَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً، ثُمَّ إنَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَثَّرَتْ فِي مَنْعِ إيجَابِ الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يُوجِبُ الرَّجْمَ بِهِ وَهُوَ أَغْلَظُ الْحُدُودِ وَأَصْعَبُ إثْبَاتًا وَأَكْثَرُ شُرُوطًا.
وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ: إذَا شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فَتُحَدُّ هِيَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَذَفَ وَجَاءَ بِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدُوا حُدَّ الثَّلَاثَةُ وَلَاعَنَ الزَّوْجُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقولهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، وَاللِّعَانُ خَلَفٌ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ كَافِرًا) صُورَتُهُ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ هِيَ فَقَذَفَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ.
قولهُ: (فَيُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الثَّابِتُ بِقولهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}) يَعْنِي الْحَدَّ، وَلَا تَحْرِيرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْحَدُّ فِي حَقِّ الْعُمُومِ، وَقَدْ جُعِلَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِاللِّعَانِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسْخِهَا فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ فَلَا يَكُونُ لِلْحَدِّ وُجُودٌ فِي قَذْفِهِنَّ لِارْتِفَاعِ الْمَنْسُوخِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فِيهِنَّ لِأَنَّهُ مَصِيرٌ إلَى غَيْرِ حُكْمِهِ.
وَالدَّلِيلُ يَنْفِيه.
وَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنْ يُقَالَ: النَّصُّ إنَّمَا نَسَخَ حُكْمَ الْحَدِّ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَا فِي كُلِّ زَوْجٍ لِأَنَّ لَفْظَةَ النَّاسِخِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} تُفِيدُ ذَلِكَ فَيَبْقَى الْعَامُّ مُوجِبًا حُكْمَهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا) بِأَنْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ) لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ الْإِحْصَانِ فِي جَانِبِهَا وَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَيَسْقُطُ الْحَدُّ كَمَا إذَا صَدَّقَتْهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ إذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الزَّوْجُ (مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ أَهْلِهَا إلَّا أَنَّهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِأَنْ تَكُونَ قَدْ زَنَتْ فِي عُمُرِهَا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا، أَمَّا إذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ تَكُونَ عَفِيفَةً مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ؛ فَقَدْ يُقَالُ امْتِنَاعُ اللِّعَانِ لِعَدَمِ شَرْطٍ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الْحَدِّ وَالْحَالُ أَنَّهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فَصَارَ كَامْتِنَاعِ اللِّعَانِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِلِّعَانِ بِأَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ قَذْفِهِ إلَّا اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهَا امْتَنَعَ تَمَامُ الْمُوجِبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّ حُكْمَ قَذْفِهِ لَيْسَ اللِّعَانَ بَلْ الْحَدَّ لِمَا بَيَّنَّا.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ») أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «أَرْبَعَةٌ مِنْ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمْ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ».
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَقَالَ وَتَابَعَهُ: يَعْنِي تَابَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيَّ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ.
وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إمَامَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مِنْ قولهِ وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُمَارَةَ بْنَ مَطَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَضَعَّفَ رُوَاتَهُ.
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الضَّعِيفَ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ كَانَ حُجَّةً، وَهَذَا كَذَلِكَ خُصُوصًا وَقَدْ اُعْتُضِدَ بِرِوَايَةِ الْإِمَامَيْنِ إيَّاهُ مَوْقُوفًا عَلَى جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ اللِّعَانِ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ شَهَادَاتٌ إلَى آخِرِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ اللِّعَانِ بِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ عَبْدًا وَهِيَ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ يُحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّ قَذْفَ الْأَمَةِ وَالْكَافِرَةِ لَا يُوجِبُهُ، بِخِلَافِ قَذْفِ الْمَحْدُودَةِ إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً، فَإِنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ.
وَلَوْ قَذَفَ الْكَافِرَةَ أَوْ الْأَمَةَ أَجْنَبِيٌّ لَا يُحَدُّ فَكَذَا الزَّوْجُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ يُلَاعِنُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا.
قِيلَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى الْجِهَتَانِ، فَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِيَ اللِّعَانُ فَقَطْ، وَبِاعْتِبَارِ جِهَتِهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ فَيَتْبَعُهُ سُقُوطُ الْحَدِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَذْفَ يُوجَدُ أَوَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلِّعَانِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَالْحَدُّ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّتِهَا مَانِعٌ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْمَانِعِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمَانِعِيَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، إذْ حَقِيقَتُهُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُقْتَضَى بِالْمَنْعِ، وَلَا وُجُودَ لِمُقْتَضَى اللِّعَانِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْمَانِعِيَّةُ مِنْ جِهَتِهَا لِلِّعَانِ.
وَالْحَدُّ إنَّمَا يَسْقُطُ بِمَا مِنْ جِهَتِهَا تَبَعًا لِسُقُوطِ اللِّعَانِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ الْمُسْقِطُ الْمُسْتَتْبَعَ مِنْ جِهَتِهَا فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ وَقَدْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.

متن الهداية:
(وَصِفَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقول فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَيَقول فِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا. يُشِيرُ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ تَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقول فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَتَقول فِي الْخَامِسَةِ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا) وَالْأَصْلُ فِي مَا تَلَوْنَاهُ مِنْ النَّصِّ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِلَفْظَةِ الْمُوَاجَهَةِ يَقول فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ.
وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لَفْظَةَ الْمُغَايَبَةِ إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهَا الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ (وَصِفَةُ اللِّعَانِ إلَخْ) ظَاهِرٌ فِي تَعَيُّنِهِ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ لَا يُعْتَدُّ بِلِعَانِهَا فَتُعِيدُ بَعْدَهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ عَلَيْهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالْمَرْأَةُ بِشَهَادَتِهَا تَقْدَحُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَهَادَتِهِ، وَلِهَذَا يُبْتَدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي فِي بَابِ الدَّعْوَى، ثُمَّ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَهُ كَذَا هُنَا، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَذَتْ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ.
وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَتَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَمُقْتَضَاهُ لُزُومُ الْإِعَادَةِ كَقول الشَّافِعِيِّ، لَكِنْ فِي الْغَايَةِ لَوْ بَدَأَ بِلِعَانِهَا فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَلَا تَجِبُ إعَادَتُهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ النَّصَّ أَعْقَبَ الرَّمْيَ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمْ وَشَهَادَتِهَا الدَّارِئَةِ عَنْهَا بِقوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} وَلِأَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى شَهَادَتِهِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ عَقِبَ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ فَانْظُرْهُ ثَمَّةَ فُرُوعٌ:
قَذَفَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا سَقَطَ اللِّعَانُ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا ثَانِيًا وَجَبَ الْحَدُّ بِالْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ بِالثَّانِي وَيُحَدُّ لِلْأَوَّلِ لِيَسْقُطَ اللِّعَانُ، وَلَوْ طَلَبَتْ اللِّعَانَ أَوَّلًا يُلَاعِنُ ثُمَّ يُحَدُّ، بِخِلَافِ حُدُودِ الْقَذْفِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَإِنَّهُ يَكْفِي حَدٌّ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ قَالَ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك فَهُوَ قَذْفٌ فِي الْحَالِ فَتُلَاعِنُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُحَدُّ.
وَمَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ مِنْ أَنَّهُ يُلَاعِنُ فِي قولهِ زَنَيْت قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَيُحَدُّ فِي قولهِ قَذَفْتُك قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْجَهُ قَذَفَهَا ثُمَّ زَنَتْ أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ بِرِدَّتِهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ لَا يَعُودُ، وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ) أَيْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَضْمُرَ مُرْجِعًا لِلضَّمِيرِ الْغَائِبِ غَيْرَهَا، بِخِلَافِ الْخِطَابِ، وَتَقول هِيَ أَيْضًا إنَّك لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقِيمَهُمَا الْقَاضِي مُتَقَابِلَيْنِ وَيَقول لَهُ الْتَعِنْ.
قولهُ: (إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ) يَعْنِي انْقَطَعَ احْتِمَالُ ضَمِيرِ الْغَائِبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاحْتِمَالِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا احْتِمَالَ مَعَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا الْتَعَنَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا) وَقَالَ زُفَرُ: تَقَعُ بِتَلَاعُنِهِمَا لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بِالْحَدِيثِ.
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ يُفَوِّتُ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ فَيَلْزَمُهُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ، دَلَّ عَلَيْهِ قول ذَلِكَ الْمُلَاعِنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، قَالَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ (وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي انْتَسَبَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعِنِّينِ (وَهُوَ خَاطِبٌ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ) عِنْدَهُمَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» نَصَّ عَلَى التَّأْبِيدِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِكْذَابَ رُجُوعٌ وَالشَّهَادَةُ بَعْدَ الرُّجُوعِ لَا حُكْمَ لَهَا، لَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ بَعْدَ الْإِكْذَابِ فَيَجْتَمِعَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ) حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَلَوْ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ بِأَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ لِلْقَذْفِ، أَوْ وُطِئَتْ هِيَ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُرْجَى عَوْدُ الْإِحْصَانِ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا صَحَّ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ غَيْرَ أَنَّ وَطْأَهَا مُحَرَّمٌ كَمَا سَتَعْلَمُ، وَلَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا ثَلَاثًا خَطَأً نَفَذَ تَفْرِيقُهُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَبَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْفُذُ.
قولهُ: (بِالْحَدِيثِ) يُشِيرُ بِهِ إلَى حَدِيثِ «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَعَلُّقَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِاللِّعَانِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى مُشْتَقٍّ يُفِيدُ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّةٌ لَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ.
قِيلَ وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ الْمَرْأَةُ أَصْلًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَالتَّمَسُّكُ بِمَرْوِيِّ زُفَرَ إنَّمَا يُفِيدُ حُرْمَتُهَا بِلِعَانِهِمَا لَا بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ حَالَ اشْتِغَالِهِمَا بِاللِّعَانِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ جُمْلَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فَتَعَذَّرَ إرَادَتُهَا، وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إلَى حَقِيقَةِ مَا يَعْقُبُ فَرَاغَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ فَاعْتَبَرْنَاهُ وَبِهِ نَقول، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حُرْمَتِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُمَا لَا يَأْتَلِفَانِ بَعْدَ اللَّعْنِ فَلَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي ذَلِكَ بَلْ وَلَا ظَاهِرٍ، بَلْ يَجُوزُ حُدُوثُ الْأُلْفَةِ بَعْدَ غَايَةِ الْعَدَاوَةِ كَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْعَدَاوَةِ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَقْتَضِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَلْ يُوجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، فَإِنَّهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، كَمَا فِيمَا إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ فَإِنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالتَّسْرِيحِ أَوْ التَّكْفِيرِ إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ هُنَا لَا يَنْتَهِي بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ الطَّلَاقُ فَيَنْحَصِرُ أَمْرُهُ فِيهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ مَنَابَهُ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ».
وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ «لَمَّا فَرَغَا مِنْ لِعَانِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَهُوَ الَّذِي عَنَى الْمُصَنِّفُ بِقولهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْمُلَاعِنِ إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلِمْت أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ وَكَذَبْت بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَقَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةً».
قَالَ سَهْلٌ: «حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ عُوَيْمِرًا حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ فَصَارَ كَمَنْ شَرَطَ الضَّمَانَ فِي السَّلَفِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَتَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ لَا لِفُرْقَةِ الزَّوْجِ.
وَقول الزُّهْرِيِّ وَسَهْلٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: أَيْ الْفُرْقَةُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ قَالَ: «وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلِيقَهُ، وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» إنَّمَا هُوَ إنْكَارُ طَلَبِ مَالِهِ مِنْهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْت صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» فَدَلَّ تَفْرِيقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يُعَارِضُهُ قول ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ مِنْ قولهِ.
وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا فَالسُّكُوتُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ، وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إلَى الْمَفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَقْرِيرَ وُقُوعِهِ الْآنَ فَيَسْتَلْزِمُ فِيمَا لَوْ فُرِضَ عَدَمُ طَلَاقِهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ الطَّلَاقَ حَتَّى اعْتَرَضَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَوْ تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ قَبْلَ طَلَاقِهِ وَطَلَاقِ الْقَاضِي حَتَّى ظَنَّ حِلَّهَا فَيُجَامِعُهَا قَبْلَ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَتَوْرِيثِ الْآخَرِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إلَى مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ دَفَعَ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ فِيهَا وُقُوعُ الْمَوْتِ يَسِيرَةٌ جِدًّا إذْ الْفَرْضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ هُوَ وَالْمَوْتُ فِي مِثْلِهَا أَنْدَرُ نَادِرٍ.
قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَرْكٌ هُوَ عَلَامَةُ حُكْمٍ وَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَعْنِي أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ رَفَضَ إمْضَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَفْهَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولهُ: (وَهُوَ خَاطِبٌ إلَخْ) يَعْنِي إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَالتَّفْرِيقِ وَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ صَارَ خَاطِبَا مِنْ الْخِطْبَةِ يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْغَايَةِ.
وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ نَظَرَ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا قَبْلَ الْإِكْذَابِ حُدَّ أَيْضًا، وَإِنْ أَبَانَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أَثَرُهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ قَذْفَهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ حَدَّيْنِ، بِخِلَافِ إكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ لِأَنَّ حَدَّهُ حِينَئِذٍ لِلْقَذْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ لَا الْقَذْفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ اللِّعَانِ، وَلِذَا يُحَدُّ شُهُودُ الزِّنَا إذَا رَجَعُوا لِتَضَمُّنِ شَهَادَتِهِمْ نِسْبَتَهُ إلَى الزِّنَا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ ثُمَّ بَانَتْ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ حُدَّ، وَكَمَا تَحِلُّ لَهُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَذَلِكَ تَحِلُّ لَهُ لَوْ قَذَفَتْ شَخْصًا أَجْنَبِيًّا بَعْدَهُ فَحُدَّتْ أَوْ قَذَفَ هُوَ أَجْنَبِيًّا فَحُدَّ أَوْ زَنَتْ أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا أَنَّهُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرُ اللِّعَانُ بِأَنْ يَقْذِفَهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ لَمْ يُشَرَّعْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إلَّا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ أَوْ بِخُلُوِّ الْقَذْفِ عَنْ الْمُوجِبِ فِي الدُّنْيَا، فَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ.
وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا، وَيَلْزَمُ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الزَّوْجِيَّةِ قَائِمَةً مَعَهَا كَمَا تَكُونُ بِالظِّهَارِ أَوْ زَالَتْ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ مِنْ حِينِ تَثْبُتُ تَثْبُتُ مُؤَبَّدَةً لَمْ يُتَصَوَّرْ تَوَقُّفُهَا عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «الْمُتَلَاعِنَانِ إذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَمَفْهُومُ شَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لِلْمُتَأَمِّلِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: «مَضَتْ السُّنَّةُ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ: وَلَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ: يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِعَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِشَرْطِ وَصْفِيَّةِ الْمَوْضُوعِ فَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَشْرُوطَةِ، وَلَمْ يَبْقَيَا بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ اللِّعَانُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا بِالْإِكْذَابِ لِنَفْسِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلُزُومِ الْحَدِّ.
وَحُكْمُهُ عَدَمُهُ فَقَدْ انْتَفَتْ اللَّوَازِمُ الشَّرْعِيَّةُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ مَلْزُومِهَا شَرْعًا فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ عَدَمُ حِلِّ الِاجْتِمَاعِ فَثَبَتَ نَقِيضُهُ وَهُوَ حِلُّ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَنْ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ قَائِمٌ حُكْمًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ إرَادَتَهُمَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ التَّلَاعُنِ حَقِيقَةً مُتَعَذِّرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ قِيَامُ التَّلَاعُنِ حُكْمًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ مَنْ وُجِدَ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ فِي الْخَارِجِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ الْإِكْذَابِ إذْ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ وَقَطْعِ اعْتِبَارِهِ قَائِمًا شَرْعًا عِنْدَ الْإِكْذَابِ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ كَوْنِهِ قَدْ تَحَقَّقَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِج، وَلَكِنْ بَقِيَ النَّظَرُ فِي أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَرْجَحُ، وَأَظُنُّ أَنَّ الثَّانِي أَسْرَعُ إلَى الْفَهْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْعَدَاوَةِ وَالضَّغِينَةِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الِانْتِظَامِ فَقَدَّمْنَا مَنْعَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ سَبَبُ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ كَوْنُ أَحَدِهِمَا صَارَ مَلْعُونًا أَوْ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ فَمَا أَبْعَدَهُ عَنْ الْفِقْهُ، إذْ لَا شَكَّ فِي بَقَاءِ إسْلَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ صَنَعَ كَبِيرَةً تَصِحُّ مِنْهَا التَّوْبَةُ بِفَضْلِ ذِي الْفَضْلِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَمْنَعُ التَّنَاكُحَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) وَصُورَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ الرَّجُلَ فَيَقول: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ (وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَنَفَى الْوَلَدَ ذَكَرَ فِي اللِّعَانِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يَنْفِي الْقَاضِي نَسَبَ الْوَلَدِ وَيُلْحِقُهُ بِأُمِّهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَى وَلَدَ امْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ هِلَالٍ وَأَلْحَقَهُ بِهَا» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ مَقْصُودَهُ، فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّفْرِيقِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ وَيَقول: قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ (فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ حَدَّهُ الْقَاضِي) لِإِقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ (وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا) وَهَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلِّعَانِ فَارْتَفَعَ حُكْمُهُ الْمَنُوطُ بِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ (وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا فَحُدَّ بِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ) لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ مِنْ جَانِبِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) شَرْطُ هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي حَالٍ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِيهِ اللِّعَانُ؛ حَتَّى لَوْ عَلِقَ وَهِيَ كَافِرَةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ عَتَقَتْ وَأَسْلَمَتْ فَنَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا لَا يَنْتَفِي وَلَا تَلَاعُنَ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ نَسَبَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ فَلَا يَنْقَطِعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ يُنْزِلُ بِالسَّحْقِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَا لِعَانَ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِهِ، وَكَذَا فِي نَفْيِهِ مِنْ وَطِئَ بِشُبْهَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدِهَا فَلَمْ يَلْتَعِنَا حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِهِ فَحَدُّ الْأَجْنَبِيِّ يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ قَاذِفُهَا حُكِمَ بِكَذِبِهِ.
قولهُ: (وَصُورَةُ اللِّعَانِ) أَيْ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ.
قولهُ: (لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَةِ هِلَالٍ) قِيلَ إنَّهُ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِامْرَأَةِ هِلَالٍ وَلَدٌ وَلَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدٍ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِنَسَبِ وَلَدِهَا الَّذِي أَتَتْ بِهِ فَإِنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُمَا وَتَتَّفِقُ.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ يَهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهُمْ رَجُلًا، فَرَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} الْآيَةَ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ هِلَالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلُوا إلَيْهَا فَجَاءَتْ، فَتَلَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ وَذَكَّرَهُمَا وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَقَالَ هِلَالٌ: وَاَللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ كَذَبْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، ثُمَّ قِيلَ لَهَا اشْهَدِي، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ. فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا عَلَيْهِ سُكْنَى وَلَا قُوتٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أَوْ أُرَيْصِحَ أُثَيْبِجَ نَاتِئَ الْأَلْيَتَيْنِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ إلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»
.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ وَلَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ، هَذِهِ فِي لَفْظِ أَبِي دَاوُد.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «سَائِرُ الْيَوْمِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي».
وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ».
فَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا وَقَطَعَ نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ.
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَكَانَتْ حُبْلَى» وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا أَيْضًا.
وَقَالَ زَوْجُهَا: مَا قَرُبْتهَا مُنْذُ عِفَارِ النَّخْلِ، وَعِفَارُ النَّخْلِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْقَى بَعْدَ الْإِبَارِ بِشَهْرَيْنِ، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ بَيِّنِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَكْرُوهِ».
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُوَيْمِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «شَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيُّ وَقَدْ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَأَنْكَرَ حَمْلَهَا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَامِلٌ، فَرَأَيْتُهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ وَجَاءَتْ بِهِ أَشْبَهَ النَّاسِ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ عُوَيْمِرٌ قَدْ لَامَهُ قَوْمُهُ وَقَالُوا امْرَأَةٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا جَاءَ الشَّبَهُ بِشَرِيكٍ عَذَرَهُ النَّاسُ، وَعَاشَ الْمَوْلُودُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ يَسِيرًا، وَصَارَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَالِ سُوءٍ».
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عُوَيْمِرًا مِنْ فُسَّاقِ الْحَدِيثِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَمْ يَحُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرًا فِي قَذْفِهِ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ.
وَشَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ وَشَرِيكُ ابْنُ سَحْمَاءَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ عَاشَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ وَنَسَبُهُ مَا نُسِبَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ إلَى شَرِيكٍ إلَيْهِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ.
قِيلَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ هِلَالٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَفِي هَذَا أَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ خِلَافُهُ وَهَذَا تَعَارُضٌ.
قولهُ: (فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ إلَخْ) أَيْ يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ بِالتَّفْرِيقِ.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ إلَخْ) أَيْ لَا يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ ضِمْنًا لِلتَّفْرِيقِ، لِأَنَّهُ: أَيْ التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ.
قولهُ: (يَنْفَكُّ عَنْهُ) أَيْ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ وَلَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ ذَلِكَ الْوَلَدِ، وَلَوْ نَفَى نَسَبَ أُمِّ الْوَلَدِ انْتَفَى الْوَلَدُ وَلَا لِعَانَ وَلَا تَفْرِيقَ بِهِ.
قولهُ: (فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا صَحِيحٌ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى الْمُلَاعِنُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيُحَدُّ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَرَكَ وَلَدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَوَرِثَهُ الْأَبُ لِاحْتِيَاجِ الْحَيِّ إلَى النَّسَبِ، وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَلَهَا ابْنٌ فَأَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ.
لَهُ أَنَّ الِابْنَ يُعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أُمِّهِ كَأَبِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِهَا.
قولهُ: (فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ) أَيْ بَعْدَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ.
قولهُ: (وَهَذَا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا سَبَقَ.
قولهُ: (وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا إلَخْ) عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَا فِي زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ بِمُجَرَّدِ الزِّنَا.
قولهُ: (وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ) قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهَا إذَا حُدَّتْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَنْ تَزْنِيَ تَخْرُجُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلِذَا أَطْلَقْنَا فِيمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِمَعْنَى نَسَبَتْ غَيْرَهَا لِلزِّنَا وَهُوَ مَعْنَى الْقَذْفِ، فَيَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ تَوَقُّفُ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ عَلَى حَدِّهَا لِأَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ وَتَوْجِيهُ تَخْفِيفِهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاللِّعَانُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ زَنَتْ فَحُدَّتْ، فَإِنَّ حَدَّهَا حِينَئِذٍ الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ زَوَالَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِطُرُوِّ الْفِسْقِ مَثَلًا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي عَنْهَا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَدَالَةِ فَلَا يَجِبُ بُطْلَانُ ذَلِكَ اللِّعَانِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْأَهْلِيَّةِ لِيَبْطُلَ أَثَرُهُ مِنْ الْحُرْمَةِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، فَكَذَا لَا يُلَاعِنُ الزَّوْجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ (وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ (وَقَذْفُ الْأَخْرَسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللِّعَانُ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ) قَذْفًا مُقْتَصَرًا (فَلَا لِعَانَ) وَكَذَا لَوْ أَسْنَدَ الْقَذْفَ وَهِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فِي الْحَالِ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ وَجُنُونُهَا مَعْهُودٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالزِّنَا، بِخِلَافِ قولهِ زَنَيْت وَأَنْتِ ذِمِّيَّةٌ أَوْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعُمُرُهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ اللِّعَانُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ حَتَّى يَخْتَصَّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ قَالَ أَحْلِفُ مَكَانَ أَشْهَدُ لَا يَجُوزُ وَلَا شَهَادَةَ لِلْأَخْرَسِ فِي الْأَمْوَالِ فَهَاهُنَا أَوْلَى.
وَكَذَا إذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ لَا لِعَانَ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تُصَدِّقُهُ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
قولهُ: (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٌ وَالظَّاهِرِيَّةُ فَيُلَاعِنُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ بَيْعِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ.
وَقَالُوا: إنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ أَصَمَتَتْ، فَقِيلَ لَهَا لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَأَشَارَتْ: أَيْ نَعَمْ فَرَأَوْا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ.
قُلْنَا: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَجْوِيزُ الْوَصِيَّةِ مِمَّنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ بِالْإِشَارَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ حَدِّهِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ اللِّعَانُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَهَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لَيْسَ حَمْلُك مِنِّي فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا) وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِقِيَامِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَصِرْ قَاذِفًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ بِنَفْيِ الْحَمْلِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَهُ فَيَتَحَقَّقُ الْقَذْفُ.
قُلْنَا: إذَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ بِك حَمْلٌ فَلَيْسَ مِنِّي.
وَالْقَذْفُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ (وَإِنْ قَالَ لَهَا زَنَيْت وَهَذَا الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا تَلَاعَنَا) لِوُجُودِ الْقَذْفِ حَيْثُ ذَكَرَ الزِّنَا صَرِيحًا (وَلَمْ يَنْفِ الْقَاضِي الْحَمْلَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفِيه لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَى الْوَلَدَ عَنْ هِلَالٍ وَقَدْ قَذَفَهَا حَامِلًا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِتَمَكُّنِ الِاحْتِمَالِ قَبْلَهُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ قِيَامَ الْحَبَلِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ، وَبِقولهِمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا.
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اللِّعَانُ يَجِبُ إلَخْ) يَعْنِي وَقْتَ الْوَضْعِ إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْقَذْفِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَاعِنُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ كَقول الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَذْفُهَا حَامِلًا عَلَى مَا تُفِيدُهُ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
قولهُ: (يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ) كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنْ الزِّنَا، وَلَوْ قَالَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَكَذَا مَا بِمَعْنَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمُعَلَّقِ إذْ بِالْوِلَادَةِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَذْفًا مُنَجَّزًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ فِي كُلِّ مَوْقُوفٍ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ إلَّا بِعَاقِبَتِهِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ فِي حَقِّنَا، وَشُبْهَةُ التَّعْلِيقِ كَحَقِيقَتِهِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ امْتَنَعَ لِعَانُهَا حَامِلًا عِنْدَنَا لِأَنَّ الْحَمْلَ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَرَدِّ الْمَبِيعَةِ بِهِ وَالْإِرْثِ لَهُ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهِلَالٌ لَمْ يَكُنْ قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْحَمْلِ بَلْ بِالزِّنَا، قَالَ: وَجَدْت شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بِهَا.
وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اُنْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا» إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فَانْظُرْهُ كَانَ إمَّا لِعِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْلِهَا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَأَخَّرَ حَتَّى ظَهَرَ الْحَمْلُ، وَكَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِعَانَ هِلَالٍ بِالْحَمْلِ قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ لِعَانِهِمَا كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ مُعَارَضًا، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ قولهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا» فَلَا يُسْتَدَلُّ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَمْلِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِلِاحْتِمَالِ قَبْلَهَا، إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ نَفْخًا أَوْ مَاءً.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِي عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ وَاسْتَمَرَّ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَشْكُكْنَ فِيهِ حَتَّى تَهَيَّأْنَ لَهُ بِتَهْيِئَةِ ثِيَابِ الْمَوْلُودِ ثُمَّ أَصَابَهَا طَلْقٌ وَجَلَسَتْ الدَّايَةُ تَحْتَهَا وَلَمْ تَزَلْ تَعْصِرُ الْعَصْرَةَ بَعْدَ الْعَصْرَةِ وَفِي كُلِّ عَصْرَةٍ تَجِدُ مَاءً حَتَّى قَامَتْ فَارِغَةً مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ.
وَأَمَّا تَوْرِيثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَثْبُتَانِ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ.
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَعِتْقُهُ مُعَلَّقٌ مَعْنًى.
وَأَمَّا رَدُّ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِالْحَمْلِ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ.
وَفِي الْبَدَائِعِ: لَا يَقْطَعُ نَسَبَ الْحَمْلِ قَبْلَ وَضْعِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ بِالِانْفِصَالِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَاحْتِمَالُ الرِّيحِ شُبْهَةٌ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَمْتَنِعُ اللِّعَانُ بِهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحُدُودِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَى الْعَيْبِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ أَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّهْنِئَةَ وَتُبْتَاعُ آلَةُ الْوِلَادَةِ صَحَّ نَفْيُهُ وَلَاعَنَ بِهِ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ) لِأَنَّ النَّفْيَ يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ وَلَا يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لِلتَّأَمُّلِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُهُ التَّهْنِئَةَ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَنْ النَّفْيِ.
وَلَوْ كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ قَدِمَ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ) الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ شَرْطِ اعْتِبَارِ صِحَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَلَهُ شَرْطَانِ مُتَّفِقٌ وَمُخْتَلِفٌ، فَالْمُتَّفِقُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّهْنِئَةَ أَوْ لَا يَسْكُتَ عِنْدَهَا، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اُعْتُبِرَ فِيهَا السُّكُوتُ رِضًا، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا مَنْظُومَةً فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ إذَا هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ، لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَالْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ وَالسُّكُوتُ لَيْسَ دَعْوَةً، وَنَسَبُ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَسُكُوتُهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي النَّفْيِ، وَالْمُخْتَلِفُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ.
أَعْنِي النَّفْيَ فِي زَمَانِ التَّهْنِئَةِ عَادَةً وَابْتِيَاعُ آلَةِ الْوِلَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبَلْ تَهْنِئَةً لَا يَنْتَفِي إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا عَلَى مَا سَيُذْكَرُ، ثُمَّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا مِقْدَارٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيرَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ سَبْعَةً لِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ.
وَضَعَّفَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ.
وَعِنْدَهُمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْوِلَادَةِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ النَّفْيُ إلَّا عَلَى فَوْرِ الْوِلَادَةِ كَقول الشَّافِعِيِّ: إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ تَأْخِيرِهِ مُدَّةً يَقَعُ فِيهَا التَّأَمُّلُ لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِي نَفْيِ وَلَدِهِ أَوْ اسْتِلْحَاقِ غَيْرِ وَلَدِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ فَجَعَلَا الْقَصِيرَةَ مُدَّةَ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ، وَلِذَا أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ ثَابِتَةٌ فِيهَا مِنْ عَدَمِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقُرْبَانِ فَكَأَنَّهُمَا فَوْرَ الْوِلَادَةِ.
وَقَالَ: لَا مَعْنَى لِتَعْيِينِ مُدَّةٍ أَصْلًا لِأَنَّهَا لِلتَّأَمُّلِ، وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَالْأَحْوَالُ أَيْضًا تَخْتَلِفُ فِي إفَادَتِهِ، فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ التَّهْنِئَةِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ مِثْلَ أَحْسَنَ اللَّهُ بَارَكَ اللَّهُ جَزَاك اللَّهُ رَزَقَك مِثْلَهُ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى دُعَاءِ الْمُهَنِّئِ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ تَهْنِئَتِهِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اعْتِبَارَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا قَبْلَهُ لِجَوَازِ النَّفْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ التَّعْيِينِ فَيُنَافِيه قولهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعْيِينِ أَصْلًا انْتَهَى.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ غَائِبًا) مَا تَقَدَّمَ كَانَ إذَا كَانَ حَاضِرًا، فَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ بَعْدَ قُدُومِهِ عِنْدَهُمَا قَدْرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ، وَعِنْدَهُ قَدْرَ مُدَّةِ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيه إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيه أَصْلًا، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ نَفْيُهُ إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ وَيُلَاعِنُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ بَلَغَهُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقْطَعُ نَسَبُهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنَفَى الْأَوَّلَ وَاعْتَرَفَ بِالثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ (وَحُدَّ الزَّوْجُ) لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَاعَنَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ بِنَفْيِ الثَّانِي وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إنَّهَا عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ هِيَ زَانِيَةٌ، وَفِي ذَلِكَ التَّلَاعُنُ كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُمَا تَوْءَمَانِ) هُمَا اللَّذَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
قولهُ: (وَحُدَّ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي) وَعَلَى هَذَا فِي أَوْلَادٍ ثَلَاثَةٍ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي.
قولهُ: (وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ) وَهُوَ مَا يَتَضَمَّنُهُ الِاعْتِرَافُ بِالْأَوَّلِ (سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ) بِنَفْيِ الثَّانِي حَقِيقَةً (فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هِيَ عَفِيفَةٌ) ثُمَّ قَذَفَهَا.
لَا يُقَالُ: ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرٌ بَاقٍ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي، فَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ شَرْعًا يَكُونُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ.
لِأَنَّا نَقول: الْحَقِيقَةُ انْقِطَاعُهُ وَثُبُوتُهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَالْحَدُّ لَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ هُنَا مُتَعَيِّنًا لَا الْحُكْمِيِّ.
هَذَا وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ جَعَلَ قولهُ فِي الْكِتَابِ وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ إلَخْ هُوَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مُقَدَّرًا وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ اللَّفْظِ.
فُرُوعٌ:
لَوْ نَفَاهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اللِّعَانِ لَزِمَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْمَيِّتِ لِانْتِهَائِهِ بِالْمَوْتِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِي الْحَيُّ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ، وَيُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْقَذْفِ، وَاللِّعَانُ يَنْفَكُّ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ، وَيَثْبُتُ النَّفْيُ تَبَعًا لَهُ إنْ أَمْكَنَ، وَلَا يُلَاعِنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ لِعَانًا يَقْطَعُ النَّسَبُ عَلَى خِلَافِ مَا وَجَبَ وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ لَزِمَ الْوَلَدَانِ لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ اللِّعَانُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ الْآنَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْكُوحَةٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ مَاضٍ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ انْتِفَائِهِ.
وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُمَا وَلَدَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا لِعَدَمِ إكْذَابِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لِلتَّصْرِيحِ بِالرُّجُوعِ.
وَلَوْ قَالَا لَيْسَا ابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْقَاضِي نَفَى أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلتَّوْأَمَيْنِ فَلَيْسَا وَلَدَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ وَجْهٍ.
وَفِي النَّوَادِرِ: ذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي امْرَأَةٍ جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي يُلَاعِنُ وَهُمْ بَنُوهُ، وَلَوْ نَفَى الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي يُحَدُّ وَهُمْ بَنُوهُ.
وَكَذَا فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَنَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْكُلِّ، كَمَنْ قَالَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ مِنِّي.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ إذَا قُطِعَ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَأُلْحِقَ بِالْأُمِّ لَا يُعْمَلُ الْقَطْعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي بَعْضِهَا، فَيَبْقَى النَّسَبُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَعَدَمِ اللُّحُوقِ بِالْغَيْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَلَا صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ لِابْنِ الْمُلَاعِنَةِ ابْنٌ وَلِلزَّوْجِ بِنْتٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ.
وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ هَذَا الْوَلَدُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَبْقَى فِي حَقِّ النَّفَقَةِ وَالْإِرْثِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَهُوَ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنْ الْمُلَاعِنِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ لَا يُنَافِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.